فصل: (مسألة:وجوب الحج لمن هو دون مسافة القصر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: حكم الدائن والمدين في وجوب الحج]

وإن كان عليه دين لا يفضل عنه ما يكفيه لحجه.. لم يجب عليه الحج، حالا كان الدين أو مؤجلا، نص عليه في " الإملاء "؛ لأن الحال على الفور، والحج على التراخي. وعليه ضرر في بقاء الدين المؤجل في ذمته، فقدم على الحج.
وكذلك لا يجب عليه الحج إلا بعد أن يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ما يكفيه للحج؛ لأن النفقة على الفور، والحج على التراخي.
وإن كان ماله دينا على غيره، فإن كان حالا على مليء باذل له.. وجب عليه الحج: لأنه قادر على قبضه. وإن كان على مليء جاحد له، ولا بينة له به، أو كان على معسر، أو كان الدين مؤجلا.. لم يجب عليه الحج: لأنه غير قادر على الزاد والراحلة.

.[فرع: بيع المسكن والخادم للحج]

ذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق": إذا كان له خادم يخدمه، ومسكن يسكنه، فإن كان، ممن لا يخدم مثله، بل جرت عادته أن يخدم نفسه.. فإن هذا الخادم فضل عن نفقته وكفايته، فإن كان إذا بيع أمكنه أن يحج بثمنه.. لزمه فرض الحج. وإن كان لا يمكنه أن يحج بثمنه.. لم يجب عليه.
وإن كان يحتاج إلى خدمته، بأن يكون شيخا لا يقدر على خدمة نفسه، أو كان يقدر ولكن هو من أهل العلم والشرف والمروءات الذين لم تجر عادتهم بأن يخدموا أنفسهم.. نظرت في الخادم والمسكن: فإن كان وافق قدر حاجته.. لم يجب عليه بيعه.
وإن كان أكثر مما يحتاج إليه؛ مثل: أن يكون له دار كبيرة الثمن ومثله يسكن دون تلك الدار، أو كان الخادم نفيسا له ثمن كبير؛ لنجابة فيه، ومثله يكتفي بدون ذلك الخادم.. نظرت في الفضل: فإن كان يكفي للحج.. وجب عليه بيعه، ويشتري ما يحتاج إليه من المسكن والخادم، ويحج بالفضل. وإن كان الفضل لا يكفي الحج.. لم يجب عليه الحج.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: يجب عليه بيع مسكنه وخادمه وإن كانت حاجته تستغرقه ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه يمكنه أن يكتري مسكنا وخادما، كما نقول في زكاة الفطر: إنه يعتبر الفضل عن كفايته يومه.
والأول أصح؛ لأن حاجته تستغرق ذلك، فهو بمنزلة من وجبت عليه الكفارة.
قال ابن الصباغ: فإن لم يكن معه مسكن ولا خادم، ومعه ما يقوم بهما، فمن قال: يجب عليه أن يبيع المسكن والخادم للحج.. فإنه يقول هاهنا: يحج ولا يشتري المسكن والخادم.
ومن قال: لا يجب عليه بيع المسكن والخادم.. قال هاهنا: لا يجب عليه الحج، بل يجوز له أن يشتري بما في يده المسكن والخادم.

.[فرع: وجوب الحج لمحتاج النكاح]

ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إذا كان معه ما يكفيه للحج، واحتاج إلى التزويج به.. وجب عليه الحج، ولا يقدم النكاح على الحج؛ لأنه من الملاذ التي تصبر النفس عنها، ولأن الحج واجب، والنكاح غير واجب، إلا أنه يجوز له تأخير الحج، فإن كان يخشى العنت.. كان تقديم التزويج أولى، وإن كان لا يخاف العنت.. كان تقديم الحج أولى.

.[فرع: بيع البضاعة للحج]

إذا كانت له بضاعة يكتسب بها ما يقوته ويقوت عياله إن كان له عيال.. فهل يلزمه صرف البضاعة في الحج؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه، وهو قول أبي العباس بن سريج، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن في ذلك مضرة وانقطاع المعاش به، وقد قال الشافعي في المفلس: (إنه يترك له ما يتجر به؛ لئلا ينقطع ويحتاج إلى الناس)، فإذا جاز أن يقطع من ديون الغرماء؛ ويجعل بضاعة للمفلس؛ ليعيش بها.. فلأن لا يلزم الإنسان صرف بضاعته بالحج أولى.
والثاني ـ وهو قول سائر أصحابنا، وقول أبي حنيفة ـ: أنه يلزمه الحج؛ لأنه واجد للزاد والراحلة، فوجب عليه الحج.
قال الشيخ أبو حامد: ولأنا لو قلنا هذا.. لوجب أن يقول: إن من لا يمكنه أن يتعيش إلا بألف دينار، إذا كان معه ألف دينار.. لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يمكنه أن يتجر بأقل من ذلك، وهذا لا يقوله أحد؛ لأنه واجد لأكثر من الزاد والراحلة.
قال المحاملي: وأما ما ذكره الشافعي في المفلس.. فإنما يترك ذلك برضا الغرماء فأما بغير رضاهم.. فلا.
قال ابن الصباغ: وهل يعتبر وجود الزاد والراحلة فاضلا عن كفايته على الدوام؟ فيه وجهان، ووجههما ما ذكرناه للوجهين في التي قبلها.

.[فرع: الاقتراض للحج]

إذا كان قادرا على أن يستقرض ما يحج به.. لم يجب عليه الحج؛ لأنه غَيْرُ مالك للزاد والراحلة، ولأنه إذا استقرض.. صار ذلك دينا في ذمته، والدين يمنع وجوب الحج عليه.
وإن قدر على أن يؤاجر نفسه.. استحب له أن يحج؛ لأنه يتوصل إلى الحج بوجه مباح، ولا يجب عليه؛ لأنه غير مالك للزاد والراحلة.
فإن أكرى نفسه، فحضر موضع الحج.. لزمه الحج وإن كان التوصل إليه غير واجب عليه؛ لأنه الآن متمكن من فعل الحج بغير مال.
وإن غصب مالا فحج به، أو حمولة فركبها وحج.. أثم بذلك، ولزمه ضمان ما غصب، وأجزأه الحج.
وقال أحمد: (لا يجزئه).
دليلنا: أن الحج فعل البدن، وقد فعله، فهو كمن ركب المخافة حتى وصل إلى الحج فحج.. فإنه يجزئه.

.[فرع: الاتجار في الحج]

إذا خرج الإنسان بنية الحج والتجارة، فحج واتجر.. صح حجه، ويسقط فرضه: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
قال ابن عباس: يعني: أن تحجوا، وتتجروا.
قال الشيخ أبو حامد: فأما الثواب.. فإن ثواب من قصد الحج دون التجارة أكثر ممن قصد الحج والتجارة؛ لأنه قصد القربة دون غيرها، وهذا قصد القربة وغيرها.
قال: وحكي في هذا المعنى: أن رجلا من أهل الخير والصلاح حج، فرأى فيما يرى النائم كأن أعمال الحجيج تعرض على الله، فقيل: فلان، فقيل: يكتب حاجا، وقيل: فلان، فقيل: يكتب تاجرا، حتى بلغ إليه، فقيل: يكتب تاجرا، قال:
فقمت من نومي، وقلت: ولم، ولست بتاجر؟ فقال: بل حملت معك كبة غزل تبيعها على أهل مكة.
فدل على: أن من كانت قربته خالصة لم يشبها بشيء من الدنيا.. فثوابه فيه أكثر.

.[فرع: ركوب البحر للحج]

وإن كان الطريق غير آمن، ويحتاج فيه إلى خفارة.. لم يجب عليه الحج؛ لأن في ذلك تغريرا بالنفس والمال.
وإن لم يكن له طريق إلا في البحر.. فقد قال الشافعي في "الأم" [2/103] (لا يبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر).
وقال في " الإملاء ": (إذا لم يكن له طريق إلا في البحر.. لا يبين لي أن لا أوجب عليه ركوب البحر للحج).
واختلف أصحابنا فيه على أربع طرق:
(الأول): منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأنه طريق مسلوك، فأشبه البر.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن البحر يخاف فيه الهلاك، فأشبه الطريق المخوف في البر.
و [الطريق الثاني منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يجب عليه ركوبه).. إذا كان الغالب منه السلامة.
وحيث قال: (لا يجب عليه).. إذا كان الغالب منه الهلاك، وبهذا قال أبو حنيفة.
و [الطريق الثالث منهم من قال: بل هي على حالين آخرين:
فحيث قال: (يجب عليه): إذا كان له عادة في ركوب البحر في معيشته؛ لأنه لا يشق عليه ركوبه:
وحيث قال: (لا يجب عليه)... إذا لم تجر له عادة في ركوب البحر؛ لأنه يشق عليه.
و [الطريق الرابعمنهم من قال: لا يجب عليه ركوبه بحال، سواء كان جريئا على ركوبه وله عادة بذلك، أو غير جريء على ركوبه، كما لا يجب على الشجاع المقاتل الحج، إذا كان على طريقه لصوص يضطر إلى قتالهم، وحيث قال الشافعي: (يجب عليه).. أراد: إذا كان قد ركب البحر لغير الحج، ودنا من الشط الذي يلي مكة، فحينئذ: يجب عليه الحج.
فلو توسط في البحر، مثل أن يكون ما قدامه مثل ما وراءه.. فهل يجب عليه الحج على هذا الطريق؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن ذلك إيجاب لركوب البحر للحج.
والثاني: يجب عليه؛ لأن الجهات قد استوت في حقه، فهو كما لو استوت الجهات في الأمن.
قال الصيمري: وأما قطع نهر كدجلة.. فيلزمه بلا خلاف.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يجب عليه ركوب البحر.. فإنه يستحب للرجال ركوبه؛ لأنهم يتوصلون بذلك إلى إسقاط الفرض عن ذممهم.
وهل يستحب للنساء ركوبه؟ فيه قولان، حكاهما في "العدة":
أحدهما: يستحب لهن كما يستحب للرجال.
والثاني: لا يستحب؛ لأن المرأة عورة وربما تغرق.. فتنكشف.

.[فرع: حج الأعمى وذوي العاهات]

إذا وجد الأعمى زادا وراحلة، ومن يقوده ويهديه عند النزول، ومن يركبه وينزله، وكان قادرا على الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة.. وجب عليه الحج. وكذلك مقطوع اليدين والرجلين. ولا يجوز له أن يستأجر من يحج عنه، وبهذا قال أحمد وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة ـ في أصح الروايتين عنه ـ: (يجوز له الاستئجار على الحج، ولا يلزمه الحج بنفسه). وحكاه الصيمري عن بعض أصحابنا.
دليلنا: أنه يتمكن من الثبوت على الراحلة بغير مشقة شديدة، فلزمه الحج بنفسه، كالبصير.

.[فرع: حكم المحرم مع المرأة]

وإن كانت امرأة.. فهل يشترط في حقها وجود المحرم معها؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الخراسانيون من أصحابنا: وجوده شرط - وبه قال أبو حنيفة، والنخعي، وأحمد، وإسحاق - لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم».
وقال البغداديون من أصحابنا: وجوده ليس بشرط؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعدي بن حاتم، وهو يصف استظهار الإسلام إلى أن قال: «حتى لتوشك الظعينة أن تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة». فلو لم يجز ذلك.. لما مدح به الإسلام، ومن قال بهذا.. حمل الخبر الأول إذا كان السفر غير واجب.
فإذا قلنا: يشترط وجود المحرم، واجتمع نسوة.. فهل يقمن مقام المحرم؟ فيه وجهان.
فإذا قلنا: يقمن مقام المحرم.. فهل يشترط أن يكون معهن، أو مع واحدة منهن محرم لها أو زوج؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشترط ذلك؛ ليتقوين به، وليتكلم عنهن.
والثاني: لا يشترط ذلك؛ لأن أطماع الرجال تنقطع عنهن إذا كثرن وصرن جماعة.

.[فرع: الخنثى المشكل]

وأما الخنثى المشكل: فإنه يجب عليه الحج، ويشترط في حقه من المحرم ما يشترط في حق المرأة. فإن كان معه نسوة، فإن كن أخواته، أو أمهاته، أو بنات أخيه، أو بنات أخته، أو عماته، أو خالاته.. جاز ذلك. وإن كن أجنبيات عنه.. لم يجز؛ لأنه لا يجوز له الخلوة بهن.

.[فرع: يشترط للحج إمكان السير]

وأما إمكان السير: فهو شرط في وجوب الحج، فإن وجدت فيه هذه الشرائط، ولكن لم يبق من الزمان ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج.. لم يجب عليه الحج.
وقال أحمد: (إمكان السير له ليس بشرط في الوجوب، وإنما هو شرط في الأداء) وكذلك أمن الطريق عنده.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97].
وهذا غير مستطيع، ولأنه معنى يتعذر معه فعل الحج، فمنع من وجوبه، كالزاد والراحلة.

.[مسألة:وجوب الحج لمن هو دون مسافة القصر]

فأما أهل مكة، ومن كان داره من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فإن كان صحيحا يقدر على المشي.. لم يكن من شرط وجوب الحج عليه، وجود الراحلة؛ لأنه ما من أحد إلا ويقدر على قطع مثل هذه المسافة من غير أن يناله مشقة كثيرة، فلم يمنع ذلك من وجوب الحج عليه، كما لا يمنع قطع المسافة من بيته إلى الجامع من وجوب الجمعة عليه. ولأن أهل الآفاق ينالهم من المشقة بالركوب إلى الحج أكثر مما ينال أهل مكة بالمشي إلى الحج، وذلك لا يمنع من وجوب الحج عليهم، فكذلك هذا مثله.
وإن كان زمنا.. فلا حج عليه إلا بوجود الراحلة، ولا يجب عليه الحبو؛ لأن المشقة بالحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة بالسير في المسافة البعيدة.
وأما الزاد، وما يحتاج إليه من النفقة في أيام شغله بالنسك: فلا بد من وجوده، فإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم، مثل: أن يكون صانعا يكتسب كل يوم ما يقوته إن لم يكن له عيال، أو يقوته ويقوت عياله، ولا يفضل عنه شيء.. فلا يجب عليه الحج؛ لأنه غير واجد للزاد.

.[مسألة:أفضلية الركوب للحج]

قال الشافعي: (الركوب في الحج أفضل من المشي فيه)، ثم قال الشافعي في موضع آخر: (إن أوصى أن يحج عنه ماشيا.. حج عنه ماشيا، ولو نذر الحج ماشيا.. لزمه المشي فيه).
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أن الركوب أفضل؛ لـ: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حج راكبا»، ولأنه أعون على قضاء المناسك، كما قلنا: إن الإفطار يوم عرفة للحاج أفضل.
والثاني: أن المشي أفضل من الركوب؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] و: (كان الحسين بن علي يمشي في الحج).
ومن أصحابنا من قال: الركوب أفضل، قولا واحدا ـ وهي طريقة البغداديين من أصحابنا ـ لما ذكرناه. وأما نصه في (الوصية): فلا يدل على أن ذلك الأفضل من مذهبه؛ لأنه يجب عليه في الوصية ما وصى به وإن كان غيره أفضل منه، ألا ترى أنه لو أوصى: أن يتصدق بدرهم.. لم يجزه أن يتصدق عنه بدينار، وإن كان أفضل منه. وأما ما روي عن ابن عباس: ففعل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى بالاتباع.

.[مسألة:المستطيع بغيره]

وأما المستطيع بغيره: فهو أن يكون معضوبا في بدنه لا يقدر على أن يثبت على مركب إلا بمشقة غير محتملة، أو بلغ من الكبر ما لا يمكنه الاستمساك على المركب، أو كان شابا نضو الخلق لا يستمسك على الراحلة، فإن لم يكن له مال، ولا من يطيعه.. لم يجب عليه الحج؛ للآية.
وإن كان له مال يمكنه أن يدفعه إلى من يحج عنه، ولم يجد من يستأجره به.. لم يجب عليه الحج؛ للآية.
وإن كان له مال، ووجد من يستأجره بأجرة المثل للحج.. وجب عليه أن يستأجره، فإن فعل ذلك، وإلا.. استقر فرض الحج في ذمته. وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (لا يجب عليه أن يستأجر).
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن امرأة من خثعم أتت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت:
يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم»، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته عنه.. نفعه»
وسئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن شيخ يجد الاستطاعة؟ فقال: (يجهز من يحج عنه). ولأنها عبادة يجب عليه بإفسادها الكفارة، فجاز أن يقوم غير فعله مقام فعله فيها، كالصوم إذا عجز عنه.. فإنه يفتدي.
وإن لم يكن للمعضوب مال، ولكن له من يطيعه بالحج.. فإنه يجب عليه الحج بذلك.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يجب عليه الحج بطاعة غيره له).
دليلنا: ما روي «عن أبي رزين العقيلي: أنه قال: قلت: يا رسول الله، إن لي أبا شيخا كبيرا لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، أفأحج عنه؟ فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حج عن أبيك واعتمر»، وروى أبو هريرة: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن أمي أسلمت، ولا تكاد أن تثبت على مركب، وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ فقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حج عن أمك»، وهذا صيغته صيغة الأمر، والأمر إذا تجرد عن القرائن.. اقتضى الوجوب، فدل على: أنه وجب الحج على المحجوج عنه بوجود من يطيعه، ولهذا أمر المطيع بالحج، ولأنه يمكنه أن يحصل الحج عن نفسه، فلزمه الحج، كما لو قدر على المال.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإنما نريد بقولنا: (يجب على المعضوب الحج ببذل الطاعة): وهو أن يكون للمعضوب من يطيعه، ويثق بطاعته إذا أمره بذلك.. فيجب على المعضوب الحج بذلك، سواء بذل له المطيع أو لم يبذل له.
وقولنا: (بذل له الطاعة) توسع في الكلام ومجاز فيه؛ لأن الشافعي قال: (متى قدر على من يطيعه في الحج عنه.. لزمه الفرض).
ولا يجب عليه الحج، إلا أن يكون في المطاع ثلاثة شرائط، وفي المطيع ثلاثة شرائط.
فأما الشرائط في المطاع: فأن يكون لم يحج عن نفسه، وأن يكون ميؤسا من حجه بنفسه بزمانة أو كبر، وأن يكون فقيرا، فأما إذا كان له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه.. وجب عليه الحج بماله.
وأما الشرائط في المطيع: فأن لا يكون عليه حج واجب: إما فرض أو نذر، وأن يكون المطيع موثوقا بطاعته في أنه يفي بما بذل، فأما إذا كان مشكوكا في طاعته.. فلا يجب عليه؛ لأن العبادة لا تجب بالشك، وأن يكون الباذل ممن يجب عليه الحج بنفسه، بأن تكون الشرائط التسع موجودة فيه.
فإن كان فقيرا.. فهل يجب على المطاع الحج إذا كان واثقا بطاعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الحج؛ لأنه واجد لمن يطيعه وإن كان بمشقة، فوجب عليه الحج، كما لو زمن ومعه دراهم لا تقوم بأجرة المثل للحج، فرضي رجل بأن يحج بها عنه.
والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأن المطاع لو كان فقيرا يقدر على المشي بنفسه، لم يجب عليه الحج.. فلأن لا يجب عليه الحج بقدرة غيره على المشي أولى.

.[فرع: وجوب الحج على المطاع]

فإن كان هذا المطيع ولدا للمطاع، أو ولد ولده وإن سفل.. وجب على المطاع الحج بذلك، بلا خلاف على المذهب.
وإن كان أخا له، أو ابن أخ، ومن أشبههما من العصبات، أو أجنبيا عنه ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحج بطاعته؛ لأن الحج إنما وجب عليه بطاعة الولد؛ لأن ماله كماله؛ بدليل: أن نفقته تجب عليه، ولا يقطع بسرقة ماله، وغير ذلك من الأحكام، وهذا لا يوجد لغير الابن.
والثاني: يجب عليه، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي أطلق ذلك، ولأنه واجد لمن يطيعه في الحج، فأشبه الولد.

.[فرع: وجود المطيع بلا علم المطاع]

وإن كان له من يطيعه، وهو لا يعلم به.. فذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق": أن ذلك بمنزلة أن يكون له مال لا يعلم به، بأن يموت مورثه. ولم يذكر حكمه.
قال ابن الصباغ، والطبري في "العدة": يجري ذلك مجرى من نسي الماء في رحله وتيمم وصلى.. هل يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان.

.[فرع: استئذان المطيع]

وإذا كان له من يطيعه.. فإنه يجب على المطاع أن يأمره بالحج، وإن استأذنه المطيع بالحج عنه.. وجب عليه أن يأذن له. فإن حج عنه بغير إذنه.. لم يجزه.
وإن استأذنه، فلم يأذن له.. فإن الحاكم يأمره بأن يأذن له، فإن لم يفعل، وأقام على الامتناع.. فهل يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع بالحج عن المطاع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع، فإذا حج عن المطاع.. وقع عنه، كما إذا كان عليه زكاة أو دين، وامتنع من أدائه.. فإن الحاكم ينوب عنه في ذلك.
والثاني: لا يجوز إذن الحاكم بذلك، وهو الصحيح؛ لأن الحج عن الغير بغير إذنه لا يجوز، فلو جوزنا إذن الحاكم في ذلك.. لوقع الحج عنه بغير إذنه مع إمكانه، فلم يجز، ويخالف الزكاة والدين؛ لأن ذلك يتعلق به حق الآدمي، بخلاف الحج عنه.
وإن كان للمعضوب مال، ولم يستأجر من يحج عنه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا ينوب عنه الحاكم في الاستئجار وجها واحدا. والفرق بينه وبين الإذن للمطيع: أن له غرضا في تأخير الاستئجار، بأن ينتفع بماله.
وأما المسعودي [في "الإبانة" ق 173] فحكى فيه وجهين:
أحدهما: هذا؛ لأن الحج لا يستأجر عنه؛ لأنه على التراخي.
والثاني: يستأجر عنه، قال: وهو الأصح؛ لأن الحج إنما يكون على التراخي في الصحة، فأما إذا زمن.. فقد يضيق وقته، فلم يكن له التأخير.